دائماً كان "كلّ الدم أسود في الليل"، كما يقول ألفا نداي بطل رواية "شقيق الروح" للكاتب السنغالي الفرنسي دافيد ديوب. ألفا هو مجند شاب سنغالي خدم في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى كواحد من بين مليوني أفريقي وضعوا أرواحهم بيد الضباط الفرنسيين والبريطانيين في معارك لم تبتدئ في بلادهم ولمّا انتهت، هناك في وسط أوروبا، استمرت "ليلاً" طويلاً لا نهاية له عندهم.

من ريف السنغال جاء مع شقيق روحه ماديمبا ديوب الذي سقط على أرض المعركة جريحاً يتوسّل ألفا أن ينهي نزاعه مع الموت بسكينه، لكن هذا الأخير أحجم عن قتله وتركه يموت على مهل خوفاً من عار قتل صديقه المقرّب. خذلان لم يشفَ منه ألفا أبداً، لكنه أسكته بثأر غريب يتمثل بالتسلل إلى أرض الأعداء بل حتى إلى خنادقهم وقتلهم بالفأس ثمّ قطع أيديهم والعودة بها إلى الرفاق للاحتفال. يفعل ألفا ذلك مرةً واثنتين وثلاثة.. وصولاً إلى اليد السابعة. بدايةً يرحّب أصدقاؤه بشجاعته، لكن ومع كل يدٍ جديدة كان الترحيب بألفا يتحوّل إلى خوف من هذا الكائن الأفريقي الساحر وغريب الأطوار، ولتبدأ الشائعات بالسريان  بين الجنود حول خطره ووحشيته.

الفرنسيون لا يحبون أن يكون المقاتل "الشوكولا"، وفق وصفهم، مجنوناً أو هائجاً أكثر مما يجب. إنهم يحبون الحرب الوحشية التي لا تثير القلق، أي تلك التي  لا يجري فيها الإكثار من قطع الأيدي ما دام مجرّد القتل يكفي. ولهذا طرد ألفا من الجبهة الأمامية ونقل إلى مستشفى يتولى علاجه من صدمات الحرب والفقد الذي عاناه بعد موت ماديمبا.

يكشف ألفا لنا أي حرب يطلبها المستعمر ومرتزقته، وأي جنون يناسبه، فيقول: "بدأ الجنود الشوكولا [السود] يهمسون بأني جنديّ ساحر.. مفترس أرواح، وبدأ الجنود التوباب [البيض] يصدّقونهم… نعم، فهمت، وحق الله، أنهم لا يريدون في ساحة الوغى إلا الجنون العارض.. السعار والجنون، لا ينبغي العودة بهما إلى الخندق. قبل العودة إليه، ينبغي على المرء أن يخلع عنه سعاره وهياجه، ينبغي أن يتجرد منهما، وإلا فلن يلعب لعبة الحرب".

لقد أراد دافيد ديوب الفائز بجائز "غونكور" الفرنسية أن يضيئ على معاناة الأفارقة المهمشين في تاريخ الحرب الأوروبية، الذين قادهم جنون الحرب بين الخنادق إلى نوعٍ آخر من الجنون الذي تغذيه ذكريات الحرمان من الأم (فقد ألفا أمّه على يد قطّاع الطرق المغاربة)، والوطن، والصديق. إنه اغتراب عن الأصول من أجل معارك الآخرين، حتى انتهى بهم الأمر أن يكونوا أياد ميتة –كالأيادي المجففة التي خبأها ألفا- بأيادي المستعمر يَضربون، لكنهم محرومون من الاتصال بالجسد الحي.

إدريس ديبي.. موتٌ في الخنادق

شكّل موت حاكم تشاد في العقود الثلاثة الماضية حدثاً مفاجئاً في الشكل والتوقيت. فالرئيس الذي شارف على السبعين قتل –حسب الإعلان الرسمي- برصاص متمردي "جبهة التغيير والوفاق" بزعامة محمد مهدي علي في شمال البلاد، وذلك بعد يوم واحد من فوزه بالولاية الرئاسية السادسة.

كثيراً ما وصف ديبي بأنه "رجل فرنسا" وحليفها القوي في الساحل الأفريقي، بعد أن وصل إلى الحكم عام 1991 "منقذاً" للبلاد من نظام الدكتاتور حسين حبري، بدعم من الخرطوم وطرابلس وباريس، وداعياً إلى التمسّك بالحرية؛ التي ستكون أولى ضحايا انقلابه العسكري الذي تحوّل إلى دكتاتورية عسكرية مدعومة من القوات الدولية، والقوة الاستعمارية الفرنسية "السابقة".

كانت علاقة ديبي بفرنسا متينة وواضحة، فقد قامت على مبدأ لا يصعب العثور على أمثلة عديدة منه في العالم الثالث: دعم فرنسا لحكم ديبي والسكوت عن فساده وقمعه مقابل مساعدة القوات الفرنسية التي أطلقت عام 2014 عملية برخان في الساحل الأفريقي لمحاربة تنظيم القاعدة و"داعش" وبوكو حرام.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصف ديبي بـ"الرجل الشجاع"، فهو بشخصيته العسكرية الميدانية وبخبرته في صناعة التمردات ومواجهتها، وبدراسته في الأكاديمية العسكرية الفرنسية وتلقيه دروس "التوتاب"، شكّل العمود الفقري لتحالف الجيش الفرنسي في الساحل، والذي لم يثبت بعد 6 سنوات من "الحرب على الإرهاب" أي نجاح في الحسم.

ويبقى اللافت أن ديبي الذي نال ثقة الرئيس السابق حبري بعد مساهمته الكبيرة في سحق التمرد العسكري المدعوم من العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، ثم عاد وانقلب على حبري بدعم من العقيد، قُتل برصاص خلّفته الحرب الليبية، فليبيا التي كانت سبباً أساسياً لحركة التمرد في شمال مالي، أصبحت سبباً مباشراً للتمرد في شمال تشاد.

وتظهر التقارير أن "جبهة التغيير والوفاق" التي قتل ديبي برصاص قواتها، شاركت إلى جانب المشير خليفة حفتر في الحرب الليبية كجزء من مجموع تحالفاته مع مرتزقة المتمردين في دارفور السودانية ومقاتلي مجموعة "فاغنر" الروسية .

إلا أن التسوية الأممية التي تم بموجبها وقف إطلاق النار في ليبيا والتشديد على ضرورة رحيل القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد، دفعت بقوات "الجبهة" للزحف، في منتصف نيسان/أبريل الجاري، نحو العاصمة التشادية نجامينا بهدف إسقاط نظام ديبي.  

لا تزال الشكوك حول حقيقة الإعلان الرسمي عن كيفية موت ديبي تشغل حيزاً من التحليل والتساؤلات، فالزعيم المحارب قتل بعد ساعات من الانتخابات التي حملت فوزه، لكن الأهم أنه قتل في الخطوط الأمامية وحده دون أي من القادة العسكريين الذين كانوا إلى جانبه. وتبلغ الشكوك حدّ التساؤل عن السبب الحقيقي وراء قتله بظرف ملتبس، أيكون اغتيل شخصياً على يد بعض حراسه المعارضين؟ أم أن انقلاباً محضراً حدث تحت غطاء مكافحة التمرد؟ ولماذا لم تتدخل فرنسا هذه المرة لضرب جحافل المتمردين، كما تدخلت قبل عامين حين أرسلت مقاتلاتها لضرب قافلة منهم كانت متوجهة نحو نجامينا؟

باريس تطالب اليوم بانتقال سلس وسلمي للسلطة، لكن ماكرون لم يستثنِ لقاء الجنرال محمد إدريس ديبي الذي بات يرأس المجلس العسكري أي السلطة الأعلى في البلاد بعد حلّ البرلمان، الأمر الذي يبدو تمهيداً للاعتراف بابن "القائد الشجاع" رئيساً في ظلّ انتخابات قد تجري برعاية الجيش.

بعض الفرضيات لا تستبعد أن تكون فرنسا راضية عن التخلص من ديبي بعد أن صار عبئاً عليها وعلى العملية العسكرية التي تقودها في الساحل، لكن هذا ما لا يمكن الجزم به، خاصة مع التوتر السياسي والعسكري الذي تشهده تشاد هذه الأيام، فأي مصلحة فرنسية بدخول البلد الذي لم يستقل عنها إلا ظاهراً الفوضى والاضطراب؟ يبقى الثابت أن ديبي الذي بالغ في الجنون بقتاله بخنادق فرنسا خرج من الخدمة بسيف سنّته الأخيرة من قبل بحرب عبثية في ليبيا.